قراءه عقائديه في بوردة البوصيري

تعد ميميه البوصيري المعروفة في الأدب العربي باسم "البردة" واحدة من أشهر قصائد المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً في أوساط الأدباء والشعراء فلم يحظَ نصٌّ شعريّ، أو نثريّ في تاريخ الأدب العربي على مرّ عصوره الممتدة من العهد الجاهليّ.. وحتى يومنا بالاهتمام على كآفة المستويات، بمثل ما حظيت به البُردة.. ولذا تنافس أكثر من مائة شاعر في معارضتها.. أشهرها معارضة أمير الشّعراء أحمد شوقي في "نهج البُردة" حيثُ قال:

ريمٌ على القاع بين البان والعلَمِ أَحَلَّ سفْك دمي في الأشهرِ الحُرمِ

فضلاً عن المشطِّرين لها والمخمِّسين والمسبِّعين وقد قام الكثيرون بشرحها وتدريسها حتى تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً منها ما هو محلى بماء الذهب ! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن .

والبوصيرى هو محمد بن سعيد بن حماد بن تحسن بن أبي سرور بن حيان بن عبد الله بن ملاك الصنهاجي، البوصيري المصري المكني بأبي عبد الله، والملقب بشرف الدين. ولد سنة 608ه- وتوفي سنة 695هــ يعود نسبه إلى " أبو صير" إحدى قرى محافظة الفيوم مسقط رأس والده

تشتمل قصيدة البردة على عشرة أجزاء رئيسة وعدد أبياتها مائة واثنان وستون بيتاً وقد استهلها على عادة الشّعراء بالغزل وشكوى الغرام حيث قال :

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن اِضَمِو

قد قسمها الدارسون إلى فصول أساسية تتناول الموضوعات التالية :

النّسيب النبويّ ( 1-12)

التحذير من هوى النفس (13-28)

مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (29-58)

مولده صلى الله عليه وسلم (59-72)

معجزاته صلى الله عليه وسلم (73-88)

القرآن الكريم (89-105)

الإسراء والمعراج (105-118)

جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته (119-140)

التوسل والتشفع (141-152)

المناجاة والتضرع (153-161)

ويرجع سبب تسمية البوصيري لها باسم البردة رغبته في محاكاة ومشاكله قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقد اشتهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة ولم يثبت فيه خبر صحيح أو حسن

ادعى البوصيري - في منامه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة ! !

وله أيضاً في المديح القصيدة المضرية:

يا رب صلّ على المختار من مضر والأنبياء وجميع الرسل ما ذكروا

والقصيدة المحمدية:

محمد أشرف الأعراب والعجم محمد خير من يمشي على قدم

والهمزية:

كيف ترقى رُقيك الأنبياءُ يـا سماءً مــا طاولتها سـماءُ

لم يساوك في علاك وقد حال سنـا فيك دونهم وسناءُ

لكن رغم ذلك فلقد وقع البوصيري في الغلو الشديد في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مخالفا ً بذلك حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري.

ومن ثمّ فقد اصطدمت قصيدته بكثير من ثوابت العقيدة مما عكر صفو روعتها الأدبية وهاك – أيها القارئ الكريم بعض الشواهد على ذلك.

فمن ذلك قوله:

يــا أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به سِـوَاكَ عِنـدَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ

وتلك مخالفة واضحة لواحدة من ثوابت العقيدة التي قامت على أساس نفى الند والشريك والمثيل له سبحانه ومن ثم فلا يصح أن يستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا بأحد غير الله الواحد القهار.

كما في قوله تعالى: "وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ" [ يونس: 106].. ( أي المشركين).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار".. رواه البخاري.

يقول الإمام الشوكاني - رحمه الله - عن هذا البيت : فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . إنا لله وإنا إليه راجعون " الدر النضيد ، ص 26.

وكذلك الحلف بغير الله كما في قوله:

أقسمتُ بالقمر المنشق إنّ له من قلبه نسبةً مبرورة القسم

ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى - من الشرك الأصغر كما ورد في غير موضع من السنة المطهرة منها حديث عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك".

ومن المخالفات أيضا زعمه بأن الدنيا لم تخلق إلا لأجله صلى الله عليه وسلم وهذا يصادم قوله سبحانه : "ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ " حيث يقول فيها

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تُخرج الدنيا من العدم

ومن ذلك أيضا أن البوصيري جعل التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب وأفضل مكان ، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله حيث يقول:

لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق منه وملتثم

ومن الخطورة بمكان زعمه بأن القرآن لا يتناسب مع مقامه صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

لو ناسبت قدره آياته عِظما أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم

يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو ؛ فإن من جملة آياته - صلى الله عليه وسلم - القرآن العظيم الشأن؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو منحط عن قدره ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم؟ من غاية الأماني للآلوسي ، 2/ 350.

لقد حرم البوصيرى التوفيق عندما زعم أن الدنيا والآخرة من عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم - وإفضاله، والجود هو العطاء والإفضال.

فمعنى الكلام : أن الدنيا والآخرة له - صلى الله عليه وسلم - ، والله - سبحانه وتعالى - يقول : "وإنَّ لَنَا لَلآخِرَة والأُولَى" [الليل : 13].

يقول البوصيري:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

وقوله: "ومن علومك علم اللوح والقلم" ينافى الأصل العظيم الذي يقرر أن علم الغيب لله وحده قال تعالى : "قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ".

وقال - عز وجل - : "وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" [الأنعام : 59].

أيها القارئ الكريم إن هذه القصيدة قد تضمنت من المخالفات الكثير والكثير ولم نرد حصر ما جاء بها.. ولكننا هنا نقول إن الغلو في الصالحين هو سبب أول شرك وقع في بني آدم كما حصل للقوم الذين بعث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام في الخبر المشهور، حيث غلوا في وَد، وسُواع، ويغوث، ويَعوْق، ونَسْر، وكانوا قوماً صالحين، فلما ماتوا صوروا لهم تماثيل حتى يتذكروهم فيعملوا مثل عملهم، ثم تقادم الزمان، ونسي العلم، ومات أولئك فجاء من بعدهم فأوحى لهم الشيطان أن اعبدوها من دون الله عز وجل فعبدوها من دون الله فوقع أول شرك في بني آدم فأرسل الله نوحاً عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده، ودعاهم إلى الكفر بعبادة ما سواه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأهلك الله عز وجل كفار قومه، ونجى نوحاً ومن آمن معه وما آمن معه إلا قليل.

وقد ورثت العرب تلك الأصنام وبقيت فيهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأهلكها الله على يديه صلوات الله وسلامه عليه

ولخطورة الغلو في الصالحين وشدة الفتنة بهم جاء التحذير منه في الكتاب والسنة وفي كلام السلف في نصوص كثيرة ومنها:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري وقوله : (لا تطروني) بضم أوله أي التاء والإطراء المدح بالباطل تقول أطريت فلانا مدحته فأفرطت في مدحه (1).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم.

وقد حذر الله سبحانه أهل الكتاب من ذلك بقوله:

"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً" (171) سورة النساء

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين